مدينة ديرنكويو تحت الأرض في كبادوكيا – أعمق أسرار التاريخ المدفونة

مدينة ديرنكويو تحت الأرض في كبادوكيا – أعمق أسرار التاريخ المدفونة
17-11-2025
جدول المحتويات

المقدمة: عالم كامل تحت قدميك

في قلب الطبيعة الخلّابة لكبادوكيا، وبين المداخن الصخرية والمناظر البركانية المدهشة، تقع واحدة من أعظم التحف الأثرية التي أبهرت العالم: مدينة ديرنكويو تحت الأرض. هذه المدينة ليست مجرّد شبكة أنفاق، بل مجتمع كامل محفور تحت الأرض بعمق يصل إلى 85 متراً، يضم مساكن، مطابخ، مدارس، معابد، مخازن، وأنظمة دفاع متطورة بشكل يثير الإعجاب. ديرنكويو ليست مجرد موقع سياحي، بل هي رحلة زمنية تعود بك آلاف السنين إلى حضارات اختبأت في الأعماق لتصنع لنفسها مكاناً آمناً من الحروب والاضطهاد.

أصل الحكاية: كيف اكتُشفت ديرنكويو؟

بدأت القصة عام 1963 عندما كان أحد السكان المحليين يجدد منزله، فوجد خلف جدار مطبخه غرفة غريبة لم يُعرف مصدرها. ومع توسيع الفتحة، ظهرت ممرات تقود إلى شبكة ضخمة من الأنفاق والغرف، ليتبين لاحقاً أنها جزء من مدينة كاملة مخفية تحت الأرض. كانت الصدمة كبيرة للباحثين، فالاكتشاف لم يكن مجرد كهف أو مخبأ، بل مدينة متعددة الطوابق، قادرة على إيواء عشرات الآلاف من الناس.

تاريخ المدينة يعود للعصور الحثّية، ثم شهدت توسعات مهمة خلال الفترات الرومانية والبيزنطية. واستخدمت بكثرة في زمن الاضطهاد الديني، حين وجد فيها المسيحيون الأوائل ملاذاً يحميهم من الحملات العسكرية.

عمارة فريدة لا تصدّق: كيف بُنيت مدينة تحت الأرض؟

رغم أن الصخور البركانية اللينة في كبادوكيا كانت السبب في سهولة الحفر، إلا أن تصميم المدينة يكشف عبقرية هندسية يصعب تصورها. فالغرف موزعة بشكل يسمح بالعيش لفترات طويلة دون الحاجة للصعود إلى السطح. تمتاز الجدران بالصلابة رغم أنها محفورة بالكامل، كما تم توزيع الممرات بطريقة تسمح بتوجيه الناس خلال حالات الطوارئ أو الحصار.

تحتوي ديرنكويو على نظام تهوية مذهل يتكون من عشرات الأعمدة الهوائية، تمتد من السطح حتى الطوابق العميقة، لتسمح بدخول الهواء النقي طوال العام. ويعتبر هذا النظام أحد أهم أسباب صمود المدينة على مر العصور. كذلك تم تصميم أبواب حجرية دائرية الشكل، يصل وزنها إلى نصف طن، تُغلق الممرات بإحكام خلال الغزوات، ما يكشف مستوى التطوّر الدفاعي الذي تمتعت به المدينة.

الحياة اليومية تحت الأرض

عند الدخول إلى ديرنكويو، يبدأ الزائر بممر طويل يضيق تدريجياً، قبل أن ينفتح على أول الطوابق حيث تقع الإسطبلات والمخازن. كانت الحيوانات تُترك في الطابق الأول لسهولة الصعود والتهوية.

مع النزول إلى الطوابق التالية، تظهر الغرف السكنية التي كانت تضم العائلات على شكل حجرات صغيرة متجاورة. تم تجهيز المطابخ بفتحات تهوية تمنع خروج الدخان إلى السطح، حرصاً على التخفّي. كما جرى بناء مخازن ضخمة للطعام والحبوب، ما يسمح بالعيش لفترات طويلة خلال فترات الحرب أو الحصار.

وفي أحد الطوابق الأكثر عمقاً، توجد مدرسة دينية قديمة تعكس مدى اهتمام السكان بالتعليم والتنظيم الاجتماعي. أما الكنيسة، فهي من أجمل أجزاء المدينة وأكثرها رهبة، إذ بُنيت بعناية فائقة وتضم محراباً وقاعات مشيّدة بطريقة تتيح الصلاة بسرية تامة.

شبكات سرية وطرق هروب مذهلة

واحدة من أكثر الأمور التي أثارت اندهاش المؤرخين هي الأنفاق التي تربط ديرنكويو بمدينة أخرى تحت الأرض تُعرف باسم كايماكلي. يُعتقد أن هذين الموقعين كانا جزءاً من شبكة متكاملة من المدن الجوفية، تُستخدم للهرب ونقل المؤن وتبادل الرسائل عبر ممرات سرية بعيداً عن أعين الغزاة. ويوجد نفق يصل طوله إلى ثمانية كيلومترات، ما يؤكد أن التخطيط لم يكن مجرد رد فعل، بل مشروع حضاري متكامل.

الموقع وكيفية الوصول إليها

تقع ديرنكويو جنوب هضبة كبادوكيا، ويمكن الوصول إليها بسهولة من أكثر المدن السياحية في المنطقة. تبعد حوالي 35 دقيقة عن مدينة غوريم و40 دقيقة عن أورجوب. ويزورها آلاف السياح يومياً ضمن الجولات المنظمة التي تتضمن زيارة المدن الجوفية والمداخن الصخرية والمناطق التاريخية الأخرى.

تستغرق الجولة داخل ديرنكويو ما بين 45 دقيقة إلى ساعة، وهي كافية لاستكشاف أهم أجزائها. إلا أن تجربة النزول إلى الأعماق قد تكون مرهقة لمن يعاني من رهاب الأماكن المغلقة أو مشاكل التنفس، بسبب ضيق الممرات وعمق الطوابق.

لماذا تعتبر ديرنكويو معجزة؟

ما يميز هذه المدينة ليس عمقها ولا حجمها فحسب، بل القدرة الاستثنائية لأهلها على خلق بيئة قابلة للحياة تحت الأرض دون أي ضوء طبيعي. فوجود مدارس، أماكن للتخزين، معابد، مطابخ، وحتى مقابر داخل المدينة، يعكس مستوى عالٍ من التنظيم والتفكير الاستراتيجي.

كما أن اعتمادهم على نظام تهوية طبيعي وتخطيط دفاعي متقدم يؤكد أن ديرنكويو لم تكن مجرد ملجأ مؤقت، بل مشروع حضاري مطوّر استُخدم عبر مئات السنين، ما يجعلها من أعظم المعالم التاريخية التي عرفتها تركيا والعالم.

الخلاصة

مدينة ديرنكويو تحت الأرض ليست مجرد موقع أثري، بل شهادة حية على قدرة الإنسان على الإبداع والابتكار حتى في أصعب الظروف. إنها مدينة متكاملة، بُنيت بذكاء ودهاء، وظلت صامدة عبر آلاف السنين. زيارتها اليوم ليست مجرّد رحلة سياحية، بل تجربة مذهلة تعيدك إلى زمن كان الناس فيه يعيشون في الأعماق حين يصبح السطح خطراً. إنها واحدة من أهم أسرار كبادوكيا وأكثرها سحراً.

فصلا الربيع والخريف يُعدّان الأفضل بسبب الجو المعتدل وانخفاض الازدحام. لكن يمكن زيارتها طوال العام، كونها تحافظ على درجة حرارة مستقرة داخل الأنفاق.
تختلف الأسعار حسب الموسم، ولكن الموقع مفتوح بشكل عام طوال أيام الأسبوع. ويمكنك التأكد من آخر الأسعار عبر موقع وزارة الثقافة التركية أو مكتب السياحة المحلي.
قد تكون غير مناسبة لمن يعاني من رهاب الأماكن المغلقة، أو مشاكل التنفس، أو صعوبة الحركة، بسبب ضيق الممرات وعمق الطوابق.
لا، يمكن للزوار زيارة حوالي 8 طوابق فقط من أصل طوابق أعمق لم تُفتح للعامة بعد بسبب أعمال الترميم والسلامة.
تم بناؤها لتوفير الحماية من الغزوات، والاختباء من الحروب، وضمان العيش لفترات طويلة دون الحاجة للصعود إلى السطح. كانت بمثابة مدينة كاملة تضم مساكن، مخازن، مدارس، وكنائس.
يُعتقد أن جذور المدينة تعود إلى العصور الحثّية (حوالي 1600 ق.م)، بينما شهدت توسعات كبيرة خلال الفترات الرومانية والبيزنطية، خصوصاً في زمن المسيحيين الأوائل.
مدينة ديرنكويو هي واحدة من أكبر وأعمق المدن الجوفية في العالم، تقع في منطقة كبادوكيا بتركيا، وتمتد إلى عمق يصل إلى 85 متراً تحت سطح الأرض. تضم شبكة معقدة من الغرف والممرات التي استخدمت كملجأ للسكان خلال فترات الحرب والاضطهاد.

مشاركة: